بقلم علي الطالقاني
تبرز الدبلوماسية متعددة المسارات كنموذج جديد، يشمل القنوات غير الرسمية في تيسير الحوار، فلم تعد الدبلوماسية الرسمية كافية وحدها لإدارة الأزمات، في حين أن المبادرات البديلة قادرة على التأثير الإيجابي في عمليات السلام.
في عالمنا المعاصر، تجاوز العمل الدبلوماسي القنوات الرسمية وبات الحوار والتواصل التشاركي مكونين أساسيين في بناء السلام وتيسير التفاهم بين الأطراف المتنازعة.
فمن الناحية النظرية، تتطلب الأحداث خصوصًا في الدول ذات الصراعات المعقدة نهجًا أكثر تعاونًا في السياسة الخارجية، وهو ما يستدعي في المقابل نموذجًا جديدًا قائمًا على الحوار في الدبلوماسية العامة.
الدبلوماسية متعددة المسارات
ويعتمد هذا الاتجاه على مفهوم “الدبلوماسية متعددة المسارات” التي تشمل دور القنوات غير الرسمية من باحثين وأكاديميين ومنظمات مجتمع مدني في تيسير الحوار.
وبهذا الصدد يرى معهد الدبلوماسية الواقع بولاية بنسلفانيا، الذي يضم أكثر من 3 ملايين عضو في 31 دولة، بأن مفهوم “متعددة المسارات (IMTD)” هي “طريقة لفهم عملية صنع السلام الدولي بوصفها مجموعة من الأنظمة المتداخلة التي تتكامل فيها الجهود الرسمية وغير الرسمية.”
كما أشار مركز التنمية وإدارة النزاعات في جامعة ميريلاند (CIDCM) إلى أن معظم الصراعات العنيفة اليوم أصبحت داخلية، مما يجعل الدبلوماسية الشعبية وغير الحكومية أدوات أكثر أهمية في بناء السلام.
وتذهب مجلة “نيغوشيشن جورنال” إلى أن “الدبلوماسية غير الرسمية” أسهمت فعليا في حلّ نزاعات طويلة الأمد ومعقدة من خلال الحوارات الهادئة وغير الرسمية بين الأطراف المتنازعة.
مسارات الحوار
تلعب المنظمات الدولية دورا محوريا في ترسيخ ثقافة الحوار وبناء الثقة. فالأمم المتحدة، بما تملكه من شرعية مؤسسية وقدرة تنظيمية، تُعد ساحة للدبلوماسية والحوار في عالم يشهد انقسامات متزايدة، لذا فإنها ركزت برامجها في العراق على دعم المسارات السياسية وبناء القدرات الوطنية في مجالات الحوار والمصالحة.
وتشير تقاريرها إلى أن الدبلوماسية الرسمية وحدها لم تعد كافية لإدارة الأزمات، وأن المبادرات البديلة التي يشارك فيها فاعلون متنوعون قادرة على التأثير الإيجابي في عمليات السلام، وهذا ما أشارت اليه دراسات مكتب دعم بناء السلام التابع للأمم المتحدة (PBSO) بأن المنظمات الدولية تساهم في بناء آليات حوار شاملة وتعزيز القدرات المؤسسية وضمان الشرعية في عمليات ما بعد النزاع.
مراكز الأبحاث من جانبها تضطلع بشكل أساسي في الربط بين النظرية والممارسة، إذ تعد منصات تفاعلية تجمع النخب الأكاديمية وصنّاع القرار حول طاولة واحدة لتبادل الرؤى وصياغة سياسات قائمة على الأدلة.
ملتقى النبأ للحوار
وفي السياق العراقي، برز ملتقى النبأ للحوار (N.F.D) في العراق بوصفه نموذجًا عمليًا لهذا النوع من الدبلوماسية الحوارية.
إذ عمل الملتقى خلال السنوات الأخيرة على فتح مسارات تواصل بين مؤسسات الدولة العراقية من جهة، والنخب الأكاديمية والإعلامية والمجتمع المدني من جهة أخرى.
وقد نظم الملتقى لقاءات وحوارات وزيارات متبادلة مع بعثات دبلوماسية، ومراكز أبحاث، ومنظمات دولية ركزت على تعزيز مفاهيم الإصلاح والسياسة الخارجية القائمة على الحوار، كما أطلق مبادرات بحثية لمتابعة القضايا الدبلوماسية والتنموية والسياسية والمجتمعية، ويمثل هذا الجهد امتدادا لما تسعى إليه الدبلوماسية متعددة المسارات من إشراك الفاعلين المحليين في صنع القرار، وترسيخ ثقافة التواصل البنّاء بدلاً من الانغلاق.
هذه التجارب، إلى جانب الأطر النظرية العالمية، تُظهر أن الحوار إضافة الى مهمته بأنه أداة تكميلية، أصبح أيضا ركيزة استراتيجية من ركائز الدبلوماسية الحديثة في بناء الاستقرار، فإن مراكز الفكر أصبحت جسورا تربط بين المعرفة وصناعة القرار، وتتيح فضاءات حوارية قائمة على البحث والتحليل.
يؤكد مركز كارنيغي للسلام الدولي أن الدبلوماسية البديلة، التي تشمل المراكز البحثية والمجتمع المدني، غالبا ما تكون أكثر فاعلية من القنوات الرسمية في حل النزاعات وتعزيز التفاهم المشترك، وتُظهر هذه الرؤى كيف يمكن لمراكز الأبحاث العراقية أن تُسهم في ترسيخ دور بغداد كجسر للحوار الإقليمي، وأن توفر بيئة فكرية تساعد على تخفيف التوترات وتعميق التعاون متعدد الأطراف.
دور الإعلام في تعزيز الحوار
يمثل الإعلام أحد أهم الأدوات في بناء السلام وتعزيز قيم الحوار والتسامح، فالإعلام لا ينقل الأخبار فقط، بل يصنع الرأي العام ويعيد تشكيل السرديات الاجتماعية.
وقد وصفت لجنة نقاشية في جنيف الإعلام بأنه “جسر لبناء التفاهم بين المجتمعات”، وأنه يلعب دورا حاسما في المصالحة المجتمعية بعد النزاعات.
وبحسب تقرير صادر عن معهد دراسات التنمية البريطاني (IDS) فإن الإعلام يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا في بناء السلام من خلال تدريب الصحفيين على إعداد برامج ومحتوى يروّج للسلم الاجتماعي.
وتشير دراسات حديثة أن شبكات التواصل الاجتماعي تعيد صياغة المبادئ التقليدية للإعلام، مما يتيح للصحفيين فرصا جديدة للمشاركة في عمليات بناء السلام في المجتمعات المنقسمة، وفي العراق تجسدت هذه المفاهيم في برامج تدريبية نظّمت بمناسبات عديدة، استفاد منها المئات من الصحفيين وصناع المحتوى، بهدف نشر “الثقافة الإعلامية والمعلوماتية” وتعزيز السرديات الإيجابية التي تدعم السلم الأهلي وتواجه خطاب الكراهية.
هذه المبادرات تسهم في تحصين المجتمع ضد الشائعات، وفي الوقت ذاته تدعم مسارات الدبلوماسية العامة من خلال بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات.
تحديات وفرص
رغم أهمية الحوار، يواجه العراق تحديات حقيقية تعرقل جهود بناء السلام، ومع وجود الفساد، وضعف الخدمات العامة، ومعدلات بطالة، وضعف المشاركة السياسية، لا يمكن ترسيخ الاستقرار، ومع غياب قنوات حوار فعالة بين مختلف الأطراف، لا يمكن الحد من إمكانيات الإصلاح وبناء الثقة.
خلاصة القول، إن المبادرات التي يقودها الفاعلون المحليون هي الأكثر نجاحًا في إعادة بناء الثقة والتماسك الاجتماعي بعد النزاعات، لأنها تستند إلى المعرفة الميدانية والشرعية المجتمعية، ومن الضروري أن تتكامل الجهود بإطار مؤسسي دائم يعزز ثقافة الحوار والتفاهم المشترك، فإن السلام المستدام لا يمكن أن يكون عبر مذكرات التعاون أو التفاهم فقط، بل عبر الحوار المستمر الذي يجسر الانقسامات ويعزز الفهم المتبادل.








